الـAI يغيّر قواعد اللعبة.. الفوز للاستخبارات أم البنتاغون؟
تصف صحيفة "لو ديبلومات" تنافسًا داخليًا مستمرًا في واشنطن بين وكالة الاستخبارات المركزية ذات الإرث الطويل في العمليات السرّية والاختراقات الهادئة، ووزارة الدفاع ذات الثقل العسكري والميزانيات الضخمة، وتؤكد أنّ السؤال الحاكم بات: من يحتكر تعريف "العدو" وقرار الحرب داخل الولايات المتحدة الأميركية؟
من جهتها، تعرض "لوموند ديبلوماتيك" أن تركيز المرحلة الراهنة على التكنولوجيا رجّح كفة وكالة الاستخبارات، بعد تاريخٍ من تداخل الاختصاصات منذ عام ١٩٤٧ وتوسّع الوكالة في العمل شبه العسكري في كوبا وإيران والكونغو ولاوس وتشيلي وأفغانستان، ما دفع وزارة الدفاع عام ١٩٦١ إلى إنشاء وكالة الاستخبارات الدفاعية لكسر الاحتكار.
ونقل مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك خطاب السيناتور إليسا سلوتكن الذي دعا إلى رؤية جديدة للأمن القومي تدمج الأمن الاقتصادي بالرقمي والتكنولوجي، وصولًا إلى إعادة كتابة قانون الأمن القومي لعام ١٩٤٧.
وعلى الضفة التقنية، يوثّق مقال رأي في "واشنطن بوست" انتقال التجسس إلى عالم المراقبة التقنية الشاملة، حيث تعرّف المشية والجسم والوجه والبيانات التجارية الضخمة تعيد صياغة أساليب العمل السرّي وحدود السرّية.
من "فريق ب" إلى وادي السيليكون.. ما جذور التنافس التاريخي بين الاستخبارات والدفاع؟
تشرح "لو ديبلومات" أنّ إرث السبعينيات، حين اتُّهمت وكالة الاستخبارات بالتقليل من خطر موسكو ونشأ "فريق ب" لإنتاج تقديرات مقلقة تبرّر التسلّح، كرّس دينامية دائمة بين "الصقور" و"المحلّلين" تتنقل بين روسيا وإيران والصين وكوريا الشمالية، مع نزوع وزارة الدفاع إلى حروب طويلة مقابل تفضيل وكالة الاستخبارات عمليات جراحية محدودة.
وتبيّن "لوموند ديبلوماتيك" أنّ الخط الفاصل الورقي بعد إنشاء وكالة الأمن القومي عام ١٩٥٢ وضع الاستخبارات البشرية في خانة الوكالة والعمليات التقليدية في خانة الجيش، لكن الواقع شهد تلاشي هذا الفصل مع تراكم خبرة الوكالة في العمل شبه العسكري في كوبا وإيران والكونغو ولاوس وتشيلي وأفغانستان، ما دفع وزارة الدفاع عام ١٩٦١ إلى إنشاء وكالة الاستخبارات الدفاعية اعتراضًا على ما اعتبرته تقييمًا متشائمًا مفرطًا لتصعيد الحرب في فيتنام.
وتضيف "لوموند ديبلوماتيك" اختلاف النظرة:
- ترى وكالة الاستخبارات جمع المعلومات أداة دبلوماسية واستراتيجية.
- بينما تتعامل المؤسسة العسكرية معها كدعمٍ عملياتي مباشر، مع تباين اجتماعي بين تقاليد نخبوية أكاديمية في لانغلي وروابط وول ستريت من جهة، وقناة ترقّي للطبقة الوسطى في المؤسسة العسكرية من جهة أخرى.
وتلفت "لو ديبلومات" إلى أنّ مرحلة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، رسّخت "وهم الحروب النظيفة" عبر الضربات بالطائرات من دون طيار والإنزالات المحدودة بدل الحملات البرية، وهو ما منح البيت الأبيض أداة سياسية فعّالة تضرب من دون كلفة سياسية ثقيلة.
التكنولوجيا كسلاح جديد.. سباق الذكاء الاصطناعي والرقمنة في قلب أجهزة الأمن
ترى "لو ديبلومات" أنّ التحالف مع وادي السيليكون قلب موازين القوى، إذ أتاحت الشراكات التقنية لوكالة الاستخبارات رشاقةً تتجاوز بطء العقود الدفاعية.
وتوثّق واشنطن بوست أنّ صندوق الاستثمار التابع للوكالة أسّس صلة مبكّرة مع شركات ناشئة مثل "بالانتير" و"أندرِل"، ثم ظهرت شركات أسّسها ضباط سابقون تطوّر أدوات تحليل بيانات يسمّيها التقرير "استخبارات الإعلانات" عبر تفكيك البيانات التجارية الضخمة، وتقنية "أوبسكورا" لإعادة توجيه معرّفات الهواتف المحمولة بين حسابات متعددة لتشويش التتبّع، ومنصّة "لومبرا" لبناء "عملاء" ذكاء اصطناعي يجمعون البيانات ويحلّلونها ويعملون عليها لكشف نيات الخصوم.
ويعرض المقال نفسه نموذج "فار سايت" الذي بلغ دقّة 83 في المئة في التحقّق من هوية فرد على مسافة تصل إلى ألف متر، و65 في المئة حتى مع تغطية الوجه، بما يوسّع المراقبة من الوجه إلى المشية والجسم.
وتورد واشنطن بوست أنّ محاولات مبكّرة لتواصل سرّي عبر مواقع تبدو عادية انكشفت ما بين عامي 2010 و2012 في إيران ثم في الصين، وأنّ مدير الوكالة آنذاك ديفيد بتريوس نبّه عام 2012 إلى أنّ الهوية والسرّية تغيّرتا جذريًا مع بيانات تكشف الموقع والعادات والنيات والسلوك المحتمل.
ويضيف المقال أنّ خبير بيانات اشترى عام 2016 بيانات هواتف سورية زهيدة الثمن فتمكّن من تتبّع نشاطٍ عسكري قرب قاعدة عسكرية أميركية ثم في شمال شرقي سوريا، ما دفع الجيش إلى تشديد أمن الهواتف وأبرز تصاعد "استخبارات الإعلانات" كرافد متنامٍ.
وفي السياق نفسه تحذّر "لو ديبلومات" من أنّ خصخصة الحرب السرّية تعني رقابةً أضعف، إذ تمرّ عمليات وزارة الدفاع عبر الكونغرس، بينما تخضع عمليات وكالة الاستخبارات السرّية غالبًا للسلطة التنفيذية مباشرة.
تحوّل مفهوم الأمن القومي.. من الحروب التقليدية إلى الجبهة والرقمية
تحدّد السيناتور إليسا سلوتكن 3 أولويات لـ50 سنة مقبلة:
- التعامل مع الأمن الاقتصادي كأمن قومي مع نمو جذري للطبقة الوسطى.
- والفوز في سباق التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.
- وإعادة التفكير في حماية الأميركيين على الجبهتين السيبرانية والاقتصادية.
وبحسب تصريحاتها، يتطلّب ذلك الحفاظ على هيمنة الدولار بخطة شاملة تشمل قيادة العملات الرقمية المستقبلية عبر "دولار رقمي" مدعوم من الحكومة، ومعاملة سلاسل التوريد الحرجة كأصول أمن قومي بإنشاء صندوق ثروة سيادي للاستثمار الطويل في التقنيات والمعادن النادرة والمواد الدوائية الفعّالة وتخزين معادن نادرة على غرار الاحتياطي النفطي الاستراتيجي.
وتقترح سلوتكن بناء تحالفات اقتصادية حول الليثيوم والرقائق على نموذج التحالفات العسكرية، وتدعو وزارة الدفاع إلى تقليص فجوة تبنّي التقنيات مقارنة بالصين عبر اعتماد تقنيات تجارية جاهزة كما جرى في أوكرانيا.
وعلى صعيد الحماية الداخلية، تدعو إلى إنشاء حرس وطني سيبراني للتدخّل السريع عند وقوع الهجمات، وتعزيز موارد مكتب التحقيقات الفيدرالي ووزارة الدفاع لملاحقة المهاجمين خارج البلاد، ومعاملة التخريب السيبراني المدمّر كعمل حربي يستدعي الرد.
وتختم بالدعوة إلى إعادة كتابة قانون الأمن القومي لعام 1947 لإنهاء الفصل بين الاقتصاد والأمن القومي ورفع مكانة المتخصصين في التكنولوجيا داخل صنع القرار.
مستقبل التجسس الأميركي.. "ضابط حالة في صندوق" أم عودة إلى البشر؟
تسجّل واشنطن بوست أنّ عصر الكاميرات الدائمة والبيانات الشاملة جعل الإخفاء أصعب، وأنّ محاولات التستّر قد تتحوّل علامة على السعي إلى التخفي كما يشرح آرون براون.
ويعرض المقال تحوّلًا من أقنعة التنكّر في الثمانينيات إلى موجة شركات تبني أدوات ذكاء اصطناعي قادرة على التعرّف والتحليل واتخاذ القرار، وصولًا إلى فكرة "ضابط حالة داخل صندوق" يتحدث لغات متعددة ويستند إلى معارف موسّعة.
وفي سياق القوة المؤسسية، تسجّل "لو ديبلومات" أنّ رشاقة وكالة الاستخبارات واتصالاتها المباشرة بالقطاع الخاص تمنحانها قدرة على استخدام هذه الأدوات بسرعة، مع تحذير من اتساع فجوة الرقابة عندما تنتقل مزيد من أدوات القوة إلى فضاء سرّي وشركات خاصة.
رئاسة مترددة وتنافس متصاعد
تلفت "لو ديبلومات" إلى أنّ عودة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض عمّقت الشكوك المتبادلة، إذ لا يثق بالرواية التي واجهته بها الوكالة في ملف "روسيا"، ويشكّ في صقور وزارة الدفاع الذين يدفعون نحو مواجهة دائمة، فيما تفرض الأزمات في أوكرانيا والشرق الأوسط والمحيط الهادئ اختبارات مستمرّة لقرار التفضيل بين الذراع العسكرية والعقل الاستخباراتي.
وتضيف الصحيفة أنّ القوات المسلحة تبقى الذراع المرئية للولايات المتحدة، بينما تتحوّل وكالة الاستخبارات شيئًا فشيئًا إلى العقل الخفي الذي يصوغ التصوّرات ويؤثر في الحكومات ويوجّه الرأي العام، مع رهان حقيقي على سؤال من يمتلك سلطة تعريف العدو داخل واشنطن.