ديسكورد.. من اللعب إلى السياسة
حين ظهر تطبيق ديسكورد عام 2015، عُرف كمساحة تقنية مخصصة لهواة الألعاب الإلكترونية، يجمعهم في غرف دردشة صوتية ونصية تتيح لهم تبادل الخبرات وتشكيل مجتمعات افتراضية صغيرة، لكل منها اهتمامها الخاص وعالمها المغلق.
غير أنّ بنية التطبيق ومرونته في إنشاء "خوادم" واسعة أتاحت له أن يتجاوز وظيفته الأولى تدريجياً. ومع مرور الوقت، اكتشف الشباب في بلدان مختلفة أن هذه الأداة الترفيهية تصلح أيضاً للتواصل وتبادل الأفكار على نطاق أوسع.
من هونغ كونغ إلى الولايات المتحدة، ومن نيبال إلى المغرب، تحوّل ديسكورد إلى فضاء سياسي بديل تتقاطع فيه النقاشات حول الفساد والحرية والعدالة، ليتحوّل من مجرّد منصة للألعاب الإلكترونية إلى مختبر رقمي تطرح داخله وصفات الغضب الشعبي قبل أن تُنقَل إلى الشارع كحراك ملموس.
كيف انتقل ديسكورد من اللعب إلى السياسة؟
بدأ أوّل تحوّل لديسكورد عام 2017 حين استخدمته جماعات يمينية متطرفة في الولايات المتحدة للتنسيق خلال مظاهرات شارلوتسفيل التي أسفرت عن قتلى وجرحى، ليتحوّل التطبيق المخصص للألعاب فجأة إلى أداة حشد سياسي مثيرة للجدل، وفق
فوربس 2020.
لكن سرعان ما تغير المشهد بعد أن أغلقت الشركة أبوابها أمام هذه الجماعات، لتُفتح في المقابل أمام طيف واسع من المستخدمين. انضم إليها معلّمون وكشافة وطلاب نوادٍ أدبية، قبل أن تصبح مقصداً لناشطي حركة Black Lives Matter عام 2020.
تشكّلت في دالاس مجموعة تحمل اسم Dallas Protests Collective جمعت نحو ألف مشارك، وكانت بمثابة غرفة عمليات لتبادل مواقع التجمعات وخطط المسيرات، بحسب فوربس.
كما برز اسم المنصة في قضية مختلفة تماماً بالولايات المتحدة، حين ارتبطت بجريمة قتل الناشط المحافظ تشارلي كيرك في يوتا، بعدما كشفت الشرطة أنّ المتهم ترك رسائل تفصيلية على حسابه في ديسكورد.
ومع تراكم هذه التجارب وبروز استعمالات وظيفية جديدة، لم يقتصر الأمر على منطقة بعينها، بل لجأ الشباب في نيبال والفلبين والمغرب ومدغشقر، على ضفتي المحيطات، إلى المنصة نفسها للحوار وتنظيم تظاهرات.
في نيبال، تحوّل ديسكورد إلى ما يشبه برلماناً رقمياً حين استخدمه جيل الشباب الغاضب لتنسيق احتجاجات أطاحت بحكومة شارما أولي في سبتمبر 2025، بل واستعمل كمنصة للتفاوض مع المؤسسة العسكرية وأُجريت عبره مشاورات وتصويت لاختيار القاضية السابقة سوشيلا كاركي رئيسة وزراء انتقالية.
نقلت صحيفة
نيويورك تايمز عن أحد الناشطين قوله: "البرلمان في نيبال الآن هو ديسكورد"، في إشارة إلى أنّ المنصة لم تعد مجرّد أداة للنقاش، بل باتت مركزاً لصناعة القرار السياسي في لحظة انتقالية حاسمة.
وفي المغرب، ظهرت مجموعة شبابية تُعرف باسم Gen Z 212 اعتمدت على خوادم المنصة لتبادل الرسائل وتوحيد الشعارات وتنظيم دعوات التظاهر للمطالبة بإصلاحات في قطاعي الصحة والتعليم ومحاربة الفساد.
لماذا كان ديسكورد جاذباً للمتظاهرين؟
تعود جاذبية ديسكورد إلى خصائصه التقنية، حيث تطور ليصبح منصة شاملة تجمع بين المحادثة النصية والصوتية والمرئية، وتتيح إنشاء "خوادم" ضخمة تصل سعتها إلى نصف مليون عضو، مع إمكانية تفاعل ربع مليون في وقت واحد، وفق موقع
Insights. هذا الحجم الضخم يحوّل الخادم إلى ما يشبه "قاعة بلدية افتراضية"، نصفها غرفة دردشة ونصفها قاعة مؤتمرات.
على عكس منصات مثل إنستغرام أو إكس، لا يقوم ديسكورد على خوارزمية public feeds، بل على محادثات منظمة في غرف محددة لا يمكن الانضمام إليها إلا عبر دعوة من المستضيف، حسب صحيفة
إيل موندو.
هذا الطابع شبه المغلق منح المنصة قدرة أكبر على خدمة الحركات الاحتجاجية، لكنه جعلها أيضاً مصدر إشكال كما ظهر في قضية قاتل تشارلي كيرك، تايلر روبنسون، في ولاية يوتا.
رغم أن ديسكورد يتيح فضاءً واسعاً يسهّل تواصل أعداد كبيرة من الشباب، فإن كثيرين يتساءلون عن مدى شرعية من يتولون توجيه النقاش داخل المنصة.
تشير صحيفة
نيويورك تايمز أن فشاسوات لاميتشاني، أحد مؤسسي خادم ديسكورد في نيبال الذي أصبح واجهة للتفاوض مع الجيش، لم يكن قد تخرج من الثانوية سوى قبل أشهر قليلة، ما يثير شكوكاً حول مستوى الخبرة والمعرفة لدى بعض القيادات الرقمية.
كما أشار التقرير إلى أن هوية المستخدمين على الخوادم لا يمكن التحقق منها، ما يجعلها عرضة لاختراق "المخربين" أو المتطفلين من خارج البلد.
ويحذر التقرير من أن النقاشات غالباً ما تتحول إلى فوضى من الأصوات المجهولة، ويضطر المشرفون للتدخل لمنع الدعوات إلى العنف، مع ملاحظة لجوء المنظمين إلى فرض قرارات سريعة، كما حدث حين قال أحدهم: "رجاءً اختاروا ممثلاً الآن، ليس لدينا وقت"، قبل تثبيت اسم كاركي.
ويرى ستيفن فيلدستين، الباحث في كارنيغي، أن استخدام ديسكورد بهذه السعة "غير مسبوق"، لكنه حذر من أن وسائل التواصل غالباً ما تنجح في "المرحلة الأولى" من الحركات، أي الحشد والتعبئة، لكنها تفشل في بناء مؤسسات سياسية مستقرة على المدى الطويل.
وهو ما ظهر في الانتقادات الكثيرة التي رأت في نقاشات ديسكورد "مجتمعاً وظيفياً مضطرباً"، أو كما وصفها أحد المعلقين: "جنة زائفة للجيل زد".