أمن
.
خرج كامل في الرابع من أغسطس ٢٠٢٠ من مبنى شركته في مواجهة مرفأ بيروت، بعد الانفجار الضخم الذي يُعدّ من بين أكبر الانفجارات غير النووية في العالم، سالما من دون أن ينجرح من أية قطعة زجاج تناثرت من الشبابيك الكبيرة التي تدمرت.
ترك زملاءه الجرحى في المكتب، ومشى مذهولا من المكتب وسط المدينة مرورا بالأشرفية. صادف كل أنواع الفظائع على الطريق، كان يوقف المارة ويحدثهم فقط ليتأكد من أنه لا يزال على قيد الحياة، وأنها ليست روحه التي تطوف في المدينة المنكوبة، لم يصدق أنه بقي على قيد الحياة.
بعد ثلاث سنوات، خضع خلالها لعلاج نفسي وتجرع بعض المهدئات، ترك بيروت التي عادت وشهدت خيبات كبيرة، وقرر أن يفتح صفحة جديدة خارج البلد ويحقق طموحاته وهو لا يزال شابا في أوائل العشرينات. لكنه منذ ذلك الحين، وفي كل مرة تقترب فيها ذكرى ٤ أغسطس، تستعيد ذاكرته شريط ما شاهده من دمار وجرحى وقتلى على الطريق، وتعود الندوب النفسية وتؤلم فكره من جديد.
تسبّب الانفجار بمقتل أكثر من 220 شخصا. مصدر الصورة: أ ب
عودة الألم نفسه الذي اُختبر إثر وقوع الانفجار الضخم، خاصية يتشاركها كامل مع العديد من الأشخاص الجرحى الذين تحدثوا لموقع بلينكس.
جورج الذي لا يزال يخضع للعلاج الفيزيائي، ينسى ألمه طوال السنة، فهو يتابع عمله وعلاجه في آن معا، لكن الألم نفسه يولد من جديد كل ٤ أغسطس بعد الحادثة، ولا يمكنه تحديد سبب ما يحصل معه، لكنه يقول إن الفاجعة أكبر من تجاوزها بهذه السهولة.
الشاب الذي وقف أمام واجهة مبنى عمله المطلة على مرفأ بيروت وكان يشاهد الحريق الضخم، وعندما سمع صوت الهدير القوي الذي يقول إنه صوت طيران، هرب من أمام الواجهة لكن الانفجار كان أسرع منه وطيّره واصطدم بمكتب، وبعد لحظات وقف وبات ينادي على فريق عمله ويسأل من دون إدراك "مين بعده عايش؟"، ويشكر ربه الآن أن أحدا لم يفارق الحياة، واقتصر الأمر على الجروح، والألم.
رينه كانت معهم أيضا، جرح الزجاج بعض الأماكن في جسدها، نزفت كثيرا، شدت حينها على يدها وأخذ تمشي بخطوات قوية وشديدة محاولة استحضار بعض القوة، بحثت عن مفتاح سيارتها بين الركام في مكان العمل، ربطت يدها بقطعة قماش، مسكت يدي شابان معها في العمل وذهبوا إلى أقرب مستشفى، نزفوا كثيرا بانتظار دورهم، وهم أيضا كل "٤ آب" تعود أوجاعهم من جديد، ولا يمكنهم تفسير هذا الأمر.
أُصيب بالانفجار أكثر من 6 آلاف و500 شخص. مصدر الصورة: أ ب
تسبّب الانفجار بمقتل أكثر من 220 شخصا وإصابة أكثر من 6 آلاف و500 آخرين بجروح، وألحق دمارا واسعا بالمرفأ وبعدد من أحياء العاصمة. وحرم مؤسسات وأفرادا من أملاكهم ومصادر رزقهم.
لا تتوفر لدى الجهات الرسمية أي إحصاءات لذوي الإعاقة جراء الانفجار، وفق ما توضح رئيسة الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركيا، سيلفانا اللقيس، بينما أحصت منظمتها بين 800، وألف شخص يعانون من إعاقات مؤقتة أو دائمة، وأوردت أنه "من حق من أصبحوا معوقين، أن يتم توفير دعم لهم مدى الحياة، عبر تعويض يسمح لهم العيش بكرامة واستقلالية كما كانوا قبل الانفجار".
وتوفي ٤ على الأقل من المصابين بإعاقات جرّاء الانفجار، وفق اللقيس، خلال العام الفائت لعجزهم عن توفير العلاج وتلقي الرعاية اللازمة. وتضيف "لم يقتلهم الانفجار، لكن دولتهم قتلتهم".
لا تتوفر لدى الجهات الرسمية أي إحصاءات لذوي الإعاقة جراء الانفجار. مصدر الصورة: أ ب
بعد ثلاث سنوات من انفجار مرفأ بيروت الذي فاقم مرضه وجعله عاجزا عن الحركة بمفرده، يجد داني سلامة نفسه اليوم متروكا لمصيره، بعد أن تخلت الدولة حتى عن توفير الرعاية الصحية له، على غرار مصابين كثر في الكارثة.
يقول سلامة، 39 عاما، لوكالة فرانس برس "بعد الرابع من أغسطس نسيتنا الدولة، نسيت المصابين، خسرت سيارتي وبيتي وعملي وحركتي، لم يتبق شيء لي. ولم ينظر أحد في حالنا".
في الرابع من أغسطس 2020، كان سلامة، مهندس الصوت سابقا، في عداد آلاف الضحايا الذين خلفهم انفجار ضخم في مرفأ بيروت، يُعدّ من بين أكبر الانفجارات غير النووية في العالم. ودفعه عصف الانفجار أمتارا عدّة بينما كان يجلس على شرفة منزله في حي مار مخايل المواجه للمرفأ، ما فاقم وضعه الصحي سوءا مع معاناته منذ عام 2015 من مرض التصلّب اللوحي المتعدد.
منذ الانفجار، بات سلامة عاجزا عن المشي بلا جهاز مساعدة. ويحتاج شهريا الى دواء بقيمة 140 دولارا، وإلى حقنة بقيمة ألف دولار لمرتين سنويا، لا يقوى على تحمل كلفتها. كما يحتاج إلى تدخل جراحي في المسالك البولية تصل كلفته إلى عشرة آلاف دولار.
فاقم الانفجار أساسا الأزمة الاقتصادية التي كانت ملامحها قد بدأت قبل نحو عام من وقوعه. مصدر الصورة: أ ب
يؤكد سلامة، الذي أدى انقطاعه عن تناول دواء يحسّن من قدرته على المشي جراء كلفته الباهظة الى تعثره وجرح رأسه الشهر الماضي، أن أيا من الجهات الرسمية لم تمدّ له يد العون. وعلى غرار مصابين آخرين، يشكو من إحجام الدولة عن تقديم أيّ رعاية أو دعم مالي أو حتى السير قدما في التحقيق بعد ٣ سنوات من وقوع الكارثة.
وفاقم الانفجار أساسا الأزمة الاقتصادية التي كانت ملامحها قد بدأت قبل نحو عام من وقوعه وتسارعت خلال السنوات الثلاث الأخيرة. وباتت الدولة معها عاجزة عن توفير أبسط الخدمات، بما فيها الرعاية الصحية والاستشفاء، في وقت بات ٨٠٪ من السكان يعيشون تحت خط الفقر. ويوضح سلامة: "أنا من المنسيين، لكنني لست الوحيد. هناك كثر غيري".
ومن بين هؤلاء أيضا، أماندا شري، 40 عاما، التي خسرت عملها كخبيرة تجميل، بعدما تسببت إصابتها جرّاء الانفجار بشلل في يدها اليسرى وخسارة الرؤية في عينها اليمنى.
تقول بحسرة لفرانس برس "انتهت حياتي هنا. أحدهم سرق حياتي في ٥ دقائق ولم أعرف من هو". وتضيف من على سطح مبنى حيث كانت تعمل يشرف على المرفأ "ها أنا بعد ٣ سنوات، في الموقع نفسه وكأن شيئا لم يكن. الناس كلهم نسوا، وبتّ أنا المجروحة أُصنّف من ذوي الإعاقة".
بالكاد يقوى مخايل يونان، 52 عاما، على السير حتى يتمكن من توفير لقمة عيشه عبر إيصال قوارير الغاز الى الزبائن. أثناء وقوع الانفجار، ارتطم يونان بعائق حديدي في الشارع، ما أعاق قدرته على الحركة بشكل سليم. ويقول: "لو ساعدتني الدولة اللبنانية لتمكنت من عيش حياة طبيعية"، بينما "أصبحنا انا والألم أصدقاء اليوم".
يحتاج الرجل إلى ركبة اصطناعية تساعده على المشي، لكن كلفتها تفوق إمكانياته، بعدما تقلّص مدخوله بسبب عجزه عن حمل قوارير الغاز إلى الطوابق المرتفعة في ظلّ ساعات تقنين طويلة تحول من دون تشغيل المصاعد. لا يأمل يونان في بلوغ العدالة، في بلد يقوم نظامه السياسي على منطق المحاصصة الطائفية، وتسود فيه ثقافة الإفلات من العقاب منذ عقود، وتعطل التدخلات السياسية عمل المؤسسات الدستورية والقضائية.
نجم الانفجار، وفق السلطات، عن تخزين كميات ضخمة من نيترات الأمونيوم. مصدر الصورة: أ ب
بحسرة، يعود يونان إلى العام 1975، حين خُطف والده لمدة شهرين إثر اندلاع حرب أهلية استمرت 15 عاما، عاد بعدها فاقدا بصره من شدّة الضرب. ويوضح "حصلت الحادثة على بعد أمتار من حاجز أمني" ولم تُعرف هوية الخاطفين. وتابع "مرّت الأيّام وما زالت المافيا ذاتها تحكمنا".
نجم الانفجار، وفق السلطات، عن تخزين كميات ضخمة من نيترات الأمونيوم داخل المرفأ من دون إجراءات وقاية، إثر اندلاع حريق لم تُعرف أسبابه. وتبيّن لاحقا أنّ مسؤولين على مستويات عدّة كانوا على دراية بمخاطر تخزين المادة ولم يحركوا ساكناً
وفي 23 يناير، أعلن المحقق العدلي طارق بيطار استئناف تحقيقاته متحديا الضغوط السياسية والقضائية مع وجود عشرات الدعاوى المرفوعة ضدّه والمطالبة بعزله والتي علّقت عمله لمدة 13 شهرا. لكن النيابة العامة سرعان ما رفضت قراره وادعت بدورها عليه بتهمة "التمرد على القضاء واغتصاب السلطة"، ما أنذر بأزمة قضائية غير مسبوقة.
منذ ذلك الحين، دخل ملف التحقيق في غياهب النسيان، وابتعد بيطار عن أروقة قصر العدل. يقول يونان "لا أمل لدي. في كلّ مرّة يتحرك فيها دولاب العدالة، ثمة من يضع العصي لكسره".
في 6 أغسطس ٢٠٢٠، زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بيروت. مصدر الصورة: أ ب
في 8 أغسطس ٢٠٢٠، تظاهر آلاف اللبنانيين ضدّ المسؤولين السياسيين. مصدر الصورة: أ ب
© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة