مجتمع
.
أبدعت أيادي الخليجيين القدامى في تشييد مبان تقيهم حرارة الصيف، وهي عبارة عن أبنية يُطلق عليها محلياً في الإمارات بـ"البراجيل" وتتكون من أربعة أعمدة، تتربّع على سطوح المنازل، هدفها جذب الهواء البارد وسحبه إلى داخل المنازل من أجل التهوية والتبريد.
ظلت البراجيل على مدى قرون وسيلة أساسية لترطيب هواء البيوت في منطقة الخليج، إلى أن ظهرت المكيفات الهوائية العصرية أوائل القرن الماضي مع المهندس الأميركي ويليس كاريير الذي اخترع أول جهاز تكييف حديث في عام 1902.
غير أنّ تراجع دور البراجيل في تبريد منازل أهل الخليج، لن يدوم طويلاً على ما يبدو، إذ من المحتمل أن تعود بقوة في السنوات المقبلة لتنتشر ليس في الخليج فحسب، بل مناطق عديدة من العالم، خاصة بلاد المهندس " كاريير" مخترع المكيف الحديث.
ففي تقرير حديث لمجلة تايم الأمريكية، دعا جون أونيانغو، أستاذ فن العمارة من جامعة نوتردام، الولايات المتحدة إلى الاستفادة من هندسة التكييف الهوائي المنتشرة قديما في دول الشرق الأوسط مثل الإمارات وإيران وتركيا، للحد من استخدام المكيفات الكهربائية وتقليل استهلاك الطاقة وتلوث الهواء بانبعاثات الكربون.
يشير طارق الغصين، الرئيس التنفيذي لشركة تكييف إلى أنّ شركته تعاونت مع شركة فوجيستو جنرال اليابانية في عام 1973 "لجلب أول مكيف هواء صحراوي إلى الإمارات،" وأنه "منذ ذلك الحين لم تغير هذه التكنولوجيا الأولى من نوعها الطريقة التي يتم بها بناء المنازل والمكاتب فحسب، بل امتد تأثيرها إلى أسلوب حياة السكان،" بحسب صحيفة الخليج الإماراتية.
مع ارتفاع درجات الحرارة في السنوات الأخيرة، ارتفعت مبيعات وحدات التبريد ليصل عددها إلى 2 مليار وحدة حول العالم وتشكل نسبة وحدات التبريد المستعملة في الإقامات السكنية 70٪، حسب الوكالة الدولية للطاقة.
لكن نظام التكييف المعاصر يزيد من استهلاك الكهرباء، إذ سجلت الوكالة ارتفاع الطلب على الكهرباء في المباني بـ 5 ٪ بين 2021 و 2022.
باستخدام المكيفات للكهرباء تتأزم الأوضاع أكثر بسبب انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون التي تضاعفت ثلاث مرات في الفترة الممتدة بين 1990 و2022، وفق الوكالة الدولية للطاقة. ويشير المختبر الوطني للطاقة المتجددة إلى أن انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون تبلغ تقريبا 2 مليون طن في السنة وهو ما يمثل 3.94٪ من مجموع انبعاثات الغازات الدفيئة بالعالم.
تنقل مجلة منظمة أودلبن عن رينيه أوبرينجر، باحثة الطاقة بجامع بنسيلفانيا، وصفها لوحدات التكييف بمثابة سلاح ذو حدين. وتشرح أوبرينجر أنّ استخدامنا وحدات التكييف لتلطيف الجو بمنازلنا يزيد من استهلاك الكهرباء وبالتالي من انتاج مزيد من الغازات المسببة للاحتباس الحراري.
نظام التبريد التقليدي التي تشيد به مجلة تايم يختلف تماما عن أجهزة التكييف التي تعمل بالكهرباء. لكن كيف تعمل هذه المكيفات التقليدية؟
تقول روايات أن أول البراجيل ظهرت في إمارة الشارقة عندما استقر عرب النجا هناك. وبنيت معظم براجيل الإمارات مع قدوم التجار والصناع من المناطق المجاورة خلال العام 1903 واستقرارهم بمنطقة الفهيدي التي لا تزال تحتفظ بالكثير منها حتى اليوم. تنتشر البراجيل بكثرة في الإمارات، ولكنها توجد أيضا في البحرين، وقطر، والكويت.
استخدمت البراجيل للتهوية قديما وباتت تراثا معماريا يميز الفن المعماري الإماراتي (المصدر أ. ب)
تعمل البراجيل على تبريد غرف البيت، خصوصا في أيام فصل الصيف الحارة، وتوفر هواءً طبيعياً يفضّله السكان القدامى باعتباره "هواءً ربانيا نقيا"، عكس هواء المكيف الذي يراه الكثيرون "اصطناعيا ومُضرا"، حسب صحيفة البيان.
بدلا من علب المكيفات التي تغزو العالم الآن، استخدمت دول الشرق الأوسط منذ القدم براجيل مستقيمة ذات جوانب أربعة، تستقبل الرياح عبر فتحات طويلة وتمر عبر أنابيب لتصل إلى أسفل المبنى أو حتى تحت الأرض أحيانا. بهذا المستوى المنخفض، يتم تبريد الهواء بشكل طبيعي ثم ينتشر داخل المبنى. أما بالنسبة للهواء الساخن، فهو يطفو إلى الأعلى ويخرج تلقائيا من نفس الفتحات في قمة البرج، حسب إفادة أونيانغو، المختص في فن العمارة.
رسم توضيحي لعملية تبريد المنازل التي تحتوي على أبراج (المصدر أ. ف. ب)
تشرح منيرة علي المرزوقي، المشرفة على بيت النابودة بإمارة الشارقة، أنه من "الضروري وجود عمود هوائي واحد على الأقل" في المنازل الإماراتية القديمة. وتشير إلى وجود نوع آخر من البيوت تدى النابودة والتي تختلف في تصميمها عن المنازل الأخرى لأنه، بدلًا من البراجيل، تحتوي جدرانها على فتحات تمتد على طول الجدران في الغرف تسمى بالملاقف.
وطريقة التبريد التي تحدثها البراجيل "نظيفة تماما لأنها لا تستخدم الكهرباء ولا مواد ملوثة"، وفقا لما نقلته وكالة أ. ف. ب. عن ماجد علومي، مدير حديقة دولة أباد، بمقاطعة يزد، وسط إيران، والتي يقع بها أحد أبراج التبريد المسجلة كإرث إنساني بمنظمة اليونسكو.
ويرى أونيانغو أنه يمكن استخدام نظام البراجيل في تبريد المباني الشاهقة بالمدن، حيث يمكن توجيه الرياح من خلال هياكل تشبه المدخنة، أو مصائد الرياح، وتبريدها بعد ذلك بواسطة كتلة الجدران وإعادتها مرة أخرى إلى المبنى.
في مدينة مصدر بإمارة أبو ظبي، تم تطبيق مفهوم التبريد المستدام في بنايات حديثة اتخذت شركة سيمنس إحداها كمقر رئيسي لمنطقة الشرق الأوسط. وباعتبارها أكثر المباني استدامة في العالم، حصلت على تصنيف ليد للأبنية الخضراء من المجلس الأمريكي للأبنية الخضراء. ويحتوي مبنى سيمنس على أبراج تقليدية جنبًا إلى جنب مع هياكل سقف مصممة بعناية تسمح للضوء الطبيعي من الدخول للمبنى وتمنع ارتفاع درجات الحرارة.
مدينة مصدر هو تجمع سكني مستدام في إمارة أبوظبي يعتمد على الطاقة النظيفة والمتجددة (المصدر أ. ب)
ويفيد موقع شركة الاستثمار مبادلة أن المبنى من أكثر المباني "كفاءة في استهلاك الطاقة، حيث يعمل كل من تصميم المبنى والمواد المستدامة المستخدمة في بنائه والتقنيات المتقدمة التي تم توظيفها فيه، على ترشيد استهلاكه للطاقة، حيث يستهلك بنحو نصف ما تستهلكه المباني التقليدية المساوية له في الحجم ... ويتمتع المبنى الذي صمم على مبدأ "صندوق داخل صندوق"، بدرجة عالية من العزل الحراري، كما صُممت واجهات المبنى لتمنع تسرب الهواء، بُغية الحد من توصيل الحرارة.
بالإضافة إلى ذلك، تم تصنيع المظلة الخارجية من معدن الألمنيوم خفيف الوزن، ليحد من اكتساب الحرارة من أشعة الشمس، مع توفير أكبر قدر من الضوء الخارجي الطبيعي والإطلالات الجميلة".
وتنقل مجلة تايم عن أونيانغو أن أدوات البناء لها دور في الخفض من درجات الحرارة المرتفعة، عكس الصلب والإسمنت المستعمل في البنايات الحديثة. يُمكّن الطوب الحجري والطين الحفاظ على أجواء لطيفة داخل المنازل كما لا ينتج عن استخدامه انبعاثات للكربون.
لكن طرق البناء هذه تظل غير شائعة في الولايات المتحدة بسبب نقص في خبرة البناء بهذه المواد الطبيعية وإحجام مطوري المباني عن دفع التكاليف الإضافية المرتبطة بالهندسة المعمارية التقليدية.
© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة