في خضم التصعيد المتبادل بين الولايات المتحدة والصين منذ عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، لم تعد الحرب التجارية مجرّد تبادل للرسوم الجمركية، بل تطوّرت إلى استخدام أسلحة أكثر تعقيدًا.
فبعد أن بلغت الرسوم الأميركية المفروضة على المنتجات الصينية حدًّا غير مسبوق وصل إلى 145٪، امتنعت بكين عن الرد بالمثل، لكنها لجأت إلى سلاح أقل صخبًا وأكثر تأثيرًا: توقيف صادرات المعادن النادرة.
وتُعدّ هذه العناصر ضرورية لصناعة البطاريات الكهربائية وتوربينات الرياح والمعدات العسكرية المتقدّمة، وتحتكر بكين حاليًا ما يصل إلى 90٪ من عمليات معالجتها عالميًا.
في هذا الشأن، علّق أحد كبار التنفيذيين في قطاع السيارات قائلًا: "إنها وسيلة انتقام ناعمة تُجبر الشركات الأميركية على الضغط على حكومتها لتغيير سياساتها"، وفق ما نقلته صحيفة إكسبريس البريطانية.
ويؤكّد هذا التوجه الخبير فاكوندو روبليس، من مركز ويلسون للأبحاث، في حديثه لموقع بلينكس، موضحًا أنّ التفوّق الصيني في قطاع معالجة المعادن النادرة لم يكن وليد اللحظة، بل ثمرة "استثمارات استراتيجية طويلة الأمد، مدعومة بسياسات صناعية موحّدة وسيطرة محكمة على سلاسل التوريد". في المقابل، لا تزال الولايات المتحدة تتخبّط في تحديات تنظيمية، وتواجه عجزًا في قدراتها المحلية على الاستخراج والمعالجة، ما وسّع الفجوة بينها وبين خصمها الصيني.
فما هي سياسة المعادن التي تتحدى بها الصين رسوم ترامب والاقتصاد الأميركي برمته؟
اعرف أكثر
ذكرت صحيفة الغارديان أنّ القيود الصينية على تصدير سبعة من المعادن النادرة تُهدّد بشكل مباشر أكثر من 12 شركة أميركية لصناعة الأسلحة والطيران، أبرزها المصنّعة للطائرات المقاتلة إف-35 والغواصات من طراز فرجينيا وكولومبيا، والصواريخ الذكية توماهوك.
في هذا الشأن، حذرت مراكز دراسات مثل تشاتام هاوس من أنّ هذه الخطوة قد تمنح الصين "أفضلية استراتيجية خطيرة في سباق الهيمنة العسكرية والتكنولوجية"، إذ تُستخدم المعادن النادرة في إنتاج المغناطيسات الدقيقة داخل أنظمة التوجيه والرادارات والطائرات بدون طيار.
وبحسب وليام ماثيوز من تشاتام هاوس، فإن الصين "تمسك بخناق سلاسل التوريد العالمية" ومعالجة المعادن النادرة، ما يمنحها القدرة على عرقلة تقدم الولايات المتحدة في القطاعات المتقدمة وتقويض طموحات إدارة ترامب الأوسع لإعادة التصنيع.
على الرغم من محاولات الولايات المتحدة منافسة الصين لاستخراج و معالجة المعادن، تتبع الصين سياسة "موحدة" لكبح ذلك، إذ تلجأ إلى "التسعير الافتراسي" و"إغراق السوق" بمعادنها والمنتجات التي تُصنّع منها حتى تحول الاستهلاك العالمي نحو بضائعها، وفقا لوكالة بلومبرغ.
هذه السياسة تمنح الصين ميزة تنافسية وتضعف قدرة الشركات الأميركية على المنافسة، خاصة في القطاعات الاستراتيجية مثل التكنولوجيا والطاقة المتجددة والمعادن الحيوية.
فعندما حصلت شركة Syrah Resources، مثلا، على دعم بقيمة 102 مليون دولار لبناء منشأة معالجة الغرافيت في لويزيانا، ردّت الصين بزيادة إنتاجها من الغرافيت الطبيعي والصناعي وإغراق السوق به، ما أدى إلى انخفاض الأسعار بشكل حاد، وهدّد استدامة المشروع الأميركي، وفقا لتقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز.
ولم تتوقف بكين عند هذا الحد، حسب التقرير، بل اتبعت السياسة ذاتها في معادن أخرى مثل الكوبالت ومنتجات مثل الألواح الشمسية التي أغرقت بها الأسواق، مما أدى إلى انخفاض أسعارها بنسبة 50٪ وإفلاس شركات مثل Jervois التي توقفت عن العمل بعد خمسة أشهر فقط بسبب الخسائر.
تفتقر الولايات المتحدة إلى احتياطات كافية من معادن حيوية مثل الليثيوم والنيكل والكوبالت، ما يدفعها للاعتماد على الخارج، وهو ما يفسر محاولة ترامب السيطرة على غرينلاند التي تزخر بالمعادن النادرة التي لم تقع تحت القبضة الصينية بعد، وكذلك توقيع صفقة معادن مع أوكرانيا.
كما تحولت أميركا اللاتينية في السنوات الأخيرة إلى ساحة تنافس جيوسياسي محتدم بين القوى الكبرى بسبب احتياطاتها الهائلة من المعادن الحيوية، وعلى رأسها الليثيوم والنحاس والعناصر الأرضية النادرة، وفقا لتقرير نشره موقع غلوبال فاينانس.
وبحسب تقرير نشره موقع غلوبال إنباكت، تحتضن دول مثل الأرجنتين وتشيلي وبوليفيا ما يقارب 60٪ من احتياطات العالم من الليثيوم، بينما تملك تشيلي والبيرو جزءاً كبيراً من مناجم النحاس الأعلى إنتاجاً في العالم.
ومع توقعات وكالة الطاقة الدولية بارتفاع الطلب على الليثيوم بأربعين ضعفًا خلال 15 عامًا، والنحاس بنسبة 40٪ خلال خمس سنوات، تسعى الدول الصناعية الكبرى لتأمين حصتها من هذه الموارد بأي وسيلة.
في هذا الجانب.. تشير بيانات عام 2023 إلى أن الصين استحوذت على 34٪ من صادرات المعادن في أميركا اللاتينية، بعد أن منحتها بنوكها 57 مليار دولار لتمويل مشاريع تعدين في 19 دولة. في المقابل، تسعى واشنطن اليوم لتقديم بدائل تحفيزية للدول الحليفة، من خلال بناء منشآت تكرير داخل أميركا أو على قواعد عسكرية.
ويؤكّد روبليس لموقع بلينكس أن كسر احتكار الصين "يتطلّب استثمارات ضخمة، وسياسات متناغمة، وتحالفات مرنة"، موصيًا بتشكيل ائتلاف اقتصادي مع دول مثل المكسيك وتشيلي والأرجنتين لإنشاء سلسلة إمداد إقليمية للبطاريات خارج السيطرة الصينية.