موسكو تمول الحرب بالضرائب.. وأوروبا تبتكر أدوات الرد
بعد أكثر من ٣ سنوات على الحرب الروسية الأوكرانية، يجد الغرب نفسه أمام معادلة مزدوجة: كيف يرفع الكلفة الاقتصادية والعسكرية على موسكو من دون أن يتورّط مباشرة في الحرب، وفي الوقت نفسه كيف يواجه هجمات غير معلنة لطائرات مسيّرة تحلّق فوق منشآته الحساسة في قلب أوروبا.
من كييف إلى برلين وباريس، تتقاطع الجبهتان في مشهد واحد: صراع طويل يختبر صبر الاقتصاد والأمن "في زمن اللاسلم واللاحرب".
من "الضرائب الدفاعية" إلى نزيف العقول.. كيف يطيل بوتين عمر الحرب؟
تقول شبكة "سي إن إن" إنّ العقوبات الأوروبية والأميركية التي تجاوزت 18 حزمة منذ بداية الحرب أضعفت الاقتصاد الروسي لكنها لم تضعف إرادته في القتال.
ورغم الانكماش الذي ضرب بعض القطاعات، ظلّ الإنفاق العسكري الروسي المحرّك الرئيسي للنمو، حيث ارتفع الناتج المحلي بنسبة تفوق 4% خلال عامي 2023 و2024 بفضل الإنفاق الدفاعي الضخم.
ومع ذلك، تتوقّع الحكومة هذا العام نمواً لا يتجاوز 1% وتضخماً بين 6 و7%، فيما بلغت أسعار الفائدة مستوى قاسياً عند 17% في محاولة لكبح الأسعار.
في ميزانية الـ٣ سنوات الجديدة التي قدّمتها موسكو للبرلمان، يظهر بوضوح أنّ الكرملين اختار التحضير لصراع طويل، إذ حافظ على إنفاق عسكري يوازي ٤ أضعاف ما كان عليه قبل الحرب، ممولاً بزيادة ضريبة القيمة المضافة من 20 إلى 22%.
وبرغم اعتراف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بأنّ هذه الزيادة ستبطئ النمو الاقتصادي، فقد دافع عنها بوصفها "ضرورة دفاعية".
من هنا، تبرز الدعوات الغربية لما يسميه الباحث في مركز "تشاتام هاوس" تيموثي آش "عقوبات أذكى"، أي إجراءات لا تقتصر على مزيد من الحظر، بل تعتمد أدوات مالية مبتكرة.
إحدى هذه الأفكار تقضي بفرض تعريفات "ثانوية" تتراوح بين 20 و30% على الصادرات الروسية بحيث تستمرّ بالتدفق إلى الأسواق العالمية، لكن تُحوَّل عائداتها مباشرة إلى تمويل أوكرانيا.
فكرة أخرى مطروحة داخل الاتحاد الأوروبي تقوم على استخدام الأصول الروسية المجمّدة كأساس لقرض بقيمة 140 مليار يورو لأوكرانيا، تُسدّد فقط إذا دفعت موسكو تعويضات الحرب.
وبينما يرى محللون أنّ هذه الخطط قد تبعث رسالة حاسمة حول قدرة كييف على الصمود، يذهب آخرون إلى أبعد من ذلك، معتبرين أنّ الغرب يجب أن يستهدف أضعف حلقات الاقتصاد الروسي، مثل نقص اليد العاملة الذي تفاقم منذ بدء الحرب بعد فرار آلاف الرجال أو تجنيدهم.
اقتراح جديد يتحدّث عن تشجيع "نزيف الأدمغة" عبر تسهيل انتقال الكفاءات الروسية إلى الخارج، ما يزيد الضغط على سوق العمل والأجور داخل روسيا ويصعّب على الكرملين معركته ضدّ التضخم.
سلاح أوكرانيا غير الاقتصادي.. ما هو؟
في موازاة المعركة الاقتصادية، استخدمت أوكرانيا سلاحها الأكثر فعالية في الميدان: الطائرات المسيّرة بعيدة المدى.
فالهجمات المتكررة على مصافي النفط الروسية عطّلت نحو 38% من قدرات التكرير في البلاد، وفق تقديرات محللين روس، وأجبرت موسكو على تصدير النفط الخام الأقلّ ربحية بدل المنتجات المكررة.
وأدّت الضربات إلى نقص في البنزين داخل روسيا نفسها، ما اعتبره تيموثي آش "سلاحاً اقتصادياً فعّالاً" لأنّه يضرب عصب الإيرادات الروسية ويقوّض ثقة الشارع في استقرار السوق المحلي.
ولهذا السبب، يطالب خبراء غربيون بمنح كييف المزيد من الأسلحة بعيدة المدى ورفع القيود المفروضة على استخدامها، معتبرين أنّ نتائج هذه الهجمات تفوق أي أثر مباشر للعقوبات.
حرب الطائرات المسيّرة في سماء أوروبا
في وقت تتصاعد المعارك الاقتصادية والعسكرية في الشرق، تواجه أوروبا نوعا آخر من التهديدات: تحليق الطائرات المسيّرة فوق مطاراتها ومنشآتها الحيوية.
تقول وكالة "فرانس برس" إنّ عدد هذه الحوادث ازداد بشكل ملحوظ خلال الأسابيع الأخيرة فوق مطارات ألمانيا والدنمارك والنرويج ومواقع عسكرية فرنسية، وسط شبهات بتورّط روسي فيما تسميه بروكسل "هجمات هجينة في المنطقة الرمادية".
رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لايين، قالت إنّ "حادثين قد يكونان صدفة، لكن ٣ أو ٥ أو ١٠ تجعلنا أمام حملة منسقة ضدّ أوروبا".
وفي الوقت نفسه، يؤكّد خبراء أمنيون فرنسيون أنّ إثبات مسؤولية موسكو يبقى صعباً، إذ قد تكون بعض الحالات ناجمة عن مدنيين يستخدمون طائرات صينية الصنع من دون وعي بمناطق الحظر الجوي.
إلا أنّ التحدي الحقيقي أمام القارة ليس فقط في الرصد، بل في الردّ.
فالقوانين الأوروبية تقيّد بشدّة عمليات التشويش أو الإسقاط داخل مناطق مأهولة.
في فرنسا، لا تملك سوى جهة حكومية واحدة صلاحية تعطيل طائرة مسيّرة، وفي ألمانيا ما زالت الشرطة بانتظار تعديل قانوني يسمح لها بإسقاط المسيّرات التي تُشكّل تهديداً مباشراً. وحتى عندما يُرصد الهدف، يبقى تحييده صعباً من دون التسبب بأضرار جانبية.
فالتشويش قد يعطّل شبكات الاتصالات أو بثّ التلفزيون، بينما إسقاط المسيّرة بالسلاح الناري يعرّض المدنيين للخطر.
لهذا السبب، قررت السلطات الدنماركية في سبتمبر عدم إسقاط إحدى الطائرات حفاظاً على سلامة السكان.
المنطقة الرمادية بين السلم والحرب
يعبّر رئيس أركان البحرية الفرنسية، نيكولا فوجور، عن المعضلة بدقة حين يقول: "لسنا في زمن السلم التام، بل في زمن سلام غير مكتمل".
فبين عقوبات اقتصادية متصاعدة، وهجمات إلكترونية ومسيّرات مجهولة الهوية، تبدو أوروبا عالقة في حالة وسطى: لا حرب شاملة ولا سلام مستقرّ.
من موسكو إلى مورمولون، ومن كييف إلى برلين، يتقاطع المشهد الأوروبي الروسي عند سؤال واحد: كيف يوازن الغرب بين الردع والحذر؟ فبينما تسعى العقوبات "الأذكى" إلى استنزاف آلة الحرب الروسية، تكشف الطائرات المسيّرة في سماء أوروبا هشاشة الردع داخل حدودها نفسها.
وهكذا، يتحول الصراع من معركة على الجبهات إلى اختبار شامل للمرونة الاقتصادية والقانونية والتكنولوجية في مواجهة خصم لا يواجه الغرب بالسلاح وحده، بل بالسماء أيضا.